فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» أخرجه الترمذي ثم ضرب الله مثلًا لهذا الرجل الذي أتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال تعالى: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه من العطش وشدة الحر وعند الإعياء والتعب وهذا مثل ضربه الله لمن أتاه آياته وحكمته فتركها وعدل عنها واتبع هواه وترك آخرته وآثر دنياه بأخس الحيوانات وهو الكلب في أخس أحواله وهو اللهث لأن الكلب في حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها كذلك العالم الذي يتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها في الآخرة لأن التمثيل به على أن يلهث على كل حال إن حملته عليه أو تركته كان لاهثًا وذلك عادة منه وطبيعة وهي مواظبته على اللهث دائمًا فكذلك من أتاه الله العلم والدين وأغناه عن التعرض لحطام الدنيا الخسيسة، ثم إنه مال إليها وطلبها كانت حالته كحال الكلب اللاهث وقيل: إن العالم إذا توصل بعلمه إلى طلب الدنيا فإنه يظهر علومه عند أهلها ويدعل لسانه في تقرير تلك العلوم وبيانها وذلك لأجل ما يحصل عنده من حرارة الحرص الشديد وشدة العطش إلى الفوز بمطلوبه من الدينا فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الذي أدعل لسانه من اللهث في غير حاجة ولا ضرورة.
ومعنى أن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث أي إن شددت عليه وأهجته لهث وإن تركته على حاله لهث لأن اللهث طبيعة أصلية فيه فكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضًا لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب {ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا أيضًا بل هم ضلاّل في كل حال ثم قال سبحانه وتعالى: {فاقصص القصص} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاقصص القصص يا محمد على قومك أي أخبار من كفر بآيات الله: {لعلهم يتفكرون} يعني فيتعظون، وقيل: هذا المثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هاديًا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله وإلى طاعته وهم يعرفونه ويعرفون صدقه كذبوه ولم يقبلوا منه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} أي ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشيء عن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيهًا على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره وأتبعه و{أخلد} معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي إلى ما فيها من الملاذ والشهوات قال معناه ابن عباس ومجاهد والسدّي، ويحتمل أن يريد بقوله: {أخلد إلى الأرض} أي مال إلى السفاهة والرذالة كما يقال: فلان في الحضيض عبارة عن انحطاط قدره بانسلاخه من الآيات قال معناه الكرماني.
قال أبو روق: غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته، وقال قوم: معناه لرفعناه بها لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك والضمير في {بها} عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدىء وصف حاله بقوله: {ولكنه أخلد}، وقال ابن أبي نجيح {لرفعناه} لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها والضمير للآيات ثم ابتدىء وصف حاله والتفسير الأول أظهر وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة ولم يذكر الزمخشري غيره وهو الذي يقتضيه الاستدراك لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصحّ معنى الاستدراك والضمير في {لرفعناه} في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات وإن اختلفوا في الضمير في {بها} على ما يعود وقال قوم الضمير في {لرفعناه} على الكفر المفهوم مما سبق وفي {بها} عائد على الآيات أي ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات وهذا المعنى روي عن مجاهد وفيه بعد وتكلّف.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع؟ قلت: المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله ولكنه {أخلد إلى الأرض} فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون {ولو شئنا} في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: {ولو شئنا لرفعناه} ولكنا لم نشأ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
{فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} أي فصفته {إن تحمل عليه} الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطرودًا لهث وإن كان رابضًا لهث قاله ابن عباس، وقيل: شبه المتهالك على الدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه وهي كونه لا يزال لا هنا وهي أخس أحواله وأرذلها كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعبًا قلقًا في تحصيلها قال الحسن هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع أعطي أو لم يعط كالكلب يلهث طردًا وتركًا انتهى، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخسّ أحواله ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به، قال ابن عطية: وقال الجمهور إنما شبه في أنه كان ضالًا قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها أيضًا ضالًا لم تنفعه فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه أو تركه دون حمل عليه، وقال السدّي وغيره هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب، وقال الزمخشري: وكان حق الكلام أن يقال: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض} فحططناه ووضعنا منزلته فوقع قوله: {فمثله كمثل الكلب} موقع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخسّ أحواله وأرذلها في معنى ذلك انتهى وفي قوله وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى وأما قوله فوقع قوله: {فمثله} إلى آخره فليس واقعًا موقع ما ذكر لكن قوله: {ولكنه أخلد إلى الأرض} وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال: {آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها} ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال: {فانسلخ منها} وقال: {ولكنه أخلد إلى الأرض} والله تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله: {فأردت أن أعيبها} وقوله: {فأراد ربك أن يبلغا} في نسبة ما كان حسنًا إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثًا في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء.
وقال بعض شراح كتاب المصباح: وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال فلا يقال جاءني زيد إن يسأل يعظ على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبرًا عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخلُ من أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمرّ فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} وأما الثاني فلابد من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتني ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله: {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} من قبيل الأول لأن الحمل عليه والترك نقيضان.
{ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي ذلك الوصف وصف {الذين كذبوا بآياتنا} صفته كصفة الكلب لاهثًا في الحالتين فكما شبّه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخسّ حالاته كذلك شبّه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها واحتمل {ذلك} أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أن تكون محذوفة من {مثل القوم} أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل {الذين كذبوا بآياتنا} ويكون أبلغ في ذمّ المكذبين حيث جعلوا أصلًا وشبه بهم، قال ابن عطية: أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالّين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك فمثلهم كمثل الكلب، وقال الزمخشري: {كذبوا بآياتنا} من اليهود بعدما قرؤوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به، وقال ابن عباس: يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هاديًا يهديهم وداعيًا يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لا يشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل الكلب الذي يلهث على كل حال انتهى، وتلخص أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عامّ أم خاص باليهود أم بكفار مكة أقوال ثلاثة والأظهر العموم.
{فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون} أي فاسرد أخبار القرون الماضية كخبر بلعام أو من فسّر به المنسلخ إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب إذ هو من خفي أخبارهم ففي إخبارك بذلك أعظم معجز {لعلهم يتفكرون} فيما جرى على المكذبين فيكون ذلك عبرة لهم ورادعًا عن التكذيب وأن يكونوا أخبارًا شنيعة تقصّ كما قصّ خبر ذلك المنسلخ. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَوْ شِئْنَا}.
كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان مناطِ ما ذُكر من انسلاخه من الآيات ووقوعِه في مهاوي الغَواية، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعها شرطًا وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المستمرة، أي ولو شئنا رفعَه {لرفعناه} أي إلى المنازل العاليةِ للأبرار العالمين بتلك الآياتِ العاملين بموجبها، لكن لا بمحض مشيئتِنا من غير أن يكون له دخلٌ في ذلك أصلًا فإنه منافٍ للحكمة التشريعية المؤسسةِ على تعليق الأجزيةِ بالأفعال الاختيارية للعباد، بل مع مباشرته للعمل المؤدِّي إلى الرفع بصرف اختيارِه إلى تحصيله كما ينبئ عنه قوله تعالى: {بِهَا} أي بسبب تلك الآياتِ بأن عمِل بموجبها فإن اختيارَه وإن لم يكن مؤثرًا في حصوله ولا في ترتب الرفعِ عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقَه تعالى مَنوطٌ بذلك ألبتةَ حسب جَرَيان العادةِ الإلهية، وقد أشير إلى ذلك في الاستدراك بأن أُسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث قيل: {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} مع أن الإخلادَ إليها أيضًا مما لا يتحقق عند صرف اختيارِه إليه بخلقه تعالى كأنه قيل: لو شئنا رفعَه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي هي أقوى أسبابِ الرفع ولكن لم نشأْه لمباشرته لسبب نقيضِه فتُرك في كلَ من المقامين ما ذكر في الآخر تعويلًا على إشعار المذكورِ بالمطويّ كما في قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه لفعله حقيقةً، كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضّلاته، وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكرِ الإرادةِ مع الخير، والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو الشرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ونظائرِه، والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل: السفالة، والمعنى ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية، أو الضَّعةَ والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة {واتبع هَوَاهُ} مُعرِضًا عن تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} لما أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها، وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه وأذلِّها حيث قيل: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ والراحة فكأنه قيل: فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة والدناءة، وإيثارُ الجملةِ الاسمية على الفعلية بأن يقال: فصار مثلُه كمثل الكلب إلخ للإيذان بدوام اتصافِه بتلك الحالةِ الخسيسة وكمالِ استمراره عليها، والخطابُ في فعل الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة فظاعةِ حالِه، واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد، أي هو ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأزعجتَه بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب والإعياءِ، والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المثل وتفصيلٌ لما أُجمل فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ، لا محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} إثرَ قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} وقيل: هي في محل النصبِ على الحالية من الكلب بناءً على خروجهما من حقيقة الشرطِ وتحوّلِهما إلى معنى التسوية حسب تحولِ الاستفهامين المتناقضين إليه في مثل قوله تعالى: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ} كأنه قيل: لاهثًا في الحالتين وأيًا ما كان فالأظهرُ أنه تشبيهٌ للهيئة المنتزَعَة مما اعتراه بعد الانسلاخِ من سوء الحالِ واضطرامِ القلب ودوامِ القلق والاضطراب وعدمِ الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعةِ مما ذكر من حال الكلب. وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانُه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هَلَك.
{ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من الحالة الخسيسةِ منسوبةٌ إلى الكلب أو إلى المنسلخ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الخسة والدناءة أي ذلك المثلُ السيءُ {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بثاياتنا} وهم اليهودُ حيث أوُتوا من نعوت النبي عليه الصلاة والسلام وذِكرِ القرآن المُعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناسَ باقتراب مبعثِه وكانوا يستفتِحون به فلما جاءهم ما عرَفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة {فاقصص القصص} القَصصُ مصدرٌ وسُمّي به المفعولُ كالسلْب واللامُ للعهد والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكورَ مثلُ هؤلاء المكذبين فاقصُصه عليهم حسبما أوحي إليك {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيقفون على جلية الحالِ وينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلالِ ويعلمون أنك قد علِمتَه من جهة الوحي فيزدادون إيقانًا بك. والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير المخاطَب أو على أنها مفعولٌ له أي فاقصُص القصص راجيًا لتفكرهم أي أو رجاءً لتفكرهم. اهـ.